فارس قديم

احلام و أوهام و أمنيات .. أليست كل المبادىء كذلك ..؟ حتى أخلاقيات الفرسان

Name:
Location: cairo, Egypt

قد أكون أكبر المدونين سنا ..ما أكتبه هنا بدأته منذ سنوات فى دفاترى .. كتبت لنفسى .. و لأولادى حين يستطيعوا استيعاب ماكتبت .. رأيت أن لامانع من نشر بعض مافى الدفاتر .. فى حريه تااااامه

Wednesday, November 05, 2008

الحب الأول .... سعديه ..

هذا الموضوع أهديه لأحبائى زمان الوصل و سيبها على الله , فلولا سؤالهما و تواصلهما معى و تشجيعهما لى لما كنت عائدا للكتابه ثانية أبدا .. أشكرهما و أشكر المعلق على الذى لا أعرف عنوانه
امتنعت عن الكتابه لفتره .. اكتئاب أو ترقب أو مجرد انشغال بأعمالى .. أو خليط من هذا و ذاك .. لا أدرى بالتحديد .. شرعت فى البحث حول الأزمه الماليه العالميه .. و لم يكتمل بحثى حتى الآن .. شرعت أيضا فى رسم الخريطه الديجوليه للوضع السياسى المصرى ... و أيضا لم يكتمل البحث بعد .. فالضباب كثيف حقا هذه المره .. فكرت فى الكتابه عن أحساسى بالوحده الشديده .. و غلبنى ترددى فلم أكتب شيئا .. أوحت لى عشتار رفيقة القلب و العقل أن أكتب عن أزمة الذئاب المتوحده فى عالمنا العربى .. لكن غيابها المستمر لظروفها الخاصه قطع سيل الفكر و النقاش حول هذا الموضوع .. و كالعاده .. و كما علمتنى القهوه العاليه سابقا .. فحين يفشل الواقع عن الأيحاء .. و ينطمس المسقبل عن التوقع .. فلا محيص عن الأرتداد للماضى .. الماضى الجميل بكل مافيه .. أتذكره و أكتب عنه ... و لعل ما سأسرده الآن من لمحات الماضى يرتبط بخيط خفى بواقعنا الحالى .. من انهزام اليمين المتطرف.. و بدء ظهور اليسار .. مع وضوح انقضاء عهد الريعيه الرعويه فى الأقتصاد السياسى .. و نهاية الحقبه المظلمه المسماه بحقبة تاتشر ريجان ألى الأبد .. مع بداية بزوغ فكر الحوكمه .. أو مايسمى بالحكومه الرشيده ... يا الله .. حتى رومانسيتى القديمه الطاهره صرت أربطها بالوضع الأقتصادى السياسى .. اللعنه على دراستى و تخصصى .. المهم ..
مايلى .. هو قصة حبى الأول .. فعلا .. حبى الأول .. أول أنثى أتمنى الزواج منها فى حياتى .. لا أفضح نفسى ولا أفضحها .. لكنى فقط أسرد .. لأولادى كما عاهدت نفسى فى البدايات

أظننى كنت فى الرابعة عشر أو الخامسة عشر وقتها ... مراهقتى المرهقه .. و بدايات شبابى الذى كان جامحا على ما أعتقد .. و رحمة الله على جدى و من مات من أعمامى , و سلام الله على من هو حى مهم .. فقد أعتادت أسرتى باعتبارنا المسؤلين أدبيا عن زمام القرية كلها .. أعتادت أسرتى الذبح فى مطلع كل شهر هجرى .. ذبيحتين أو أكثر .. يتشارك فيهم الجميع , نحصل كلنا على مايكفينا من لحم طازح موصى عليه لشهر كامل , و يتم توزيع الباقى على أهل القرية التى شرفت عائلتى بتولى منصب العموديه و نيابة الشعب فيها .. فجدى رحمة الله عليه كان العمده و أخيه نائب الشعب فى البرلمان .. و كديدن أهل الريف .. يقوم الأحفاد بزيارة بيوت القريه و توزيع لحم الذبيحه عليهم , نوع من التعرف على أهل الزمام و أيضا تربيه لنقوسنا ( نفوس الأحفاد ) على التعامل مع الفلاحين بصوره نحاول أن تكون مثاليه ..

كان دورى فى التوزيع بعد ابن عمى ألأكبر منى بأربع أعوام .. أخرج من بيت جدى قبل صلاة الظهر بصحبة خفير نظامى يتولى حمل أكياس اللحم المذبوح طازجا و يحفظ خريطة البيوت عن ظهر قلب .. مهمتى واضحه جدا .. أطرق الباب بأدب .. و أقول لمن يفتح لى أنا فلان .. حفيد الحاج عبد الواحد .. و أوصل تحياته وسلامه .. و أسلم الهديه ( مع التأكيد على أنها هديه من جار و ليس أبدا صدقه ) لمن يقابلنى .. و لا أعترض أبدا على تلقى واجب الضيافه أنا و الغفير و الذى يتمثل غالبا فى شاى ثقيل مع حوار غالبا ما يتضمن طلب أو شكوى أوصلها بمنتهى الدقه و الأمانه لشقيق جدى نائب الشعب فى البرلمان للنظر فما يمكن عمله لخدمة أهل الزمام , ولا مانع من حمل دفتر و قلم أسجل فيه الشكاوى حتى لا أنسى تفاصيلها , علما بأن التوزيع كان يتم غالبا يوم الخميس و بالتالى فمصرح لى بدعوة صاحب الشكوى لزيارة دوار العمده بعيد صلاة الجمعه لعرض شكواه أو طلبه مباشرة على جدى أو شقيقه رحمة الله عليهما .

المهمه سهله أذا ..لا يسيئها ألا جالون الشاى الذى ألتزم بشربه يومها فى صورة كوب فى كل بيت , قد يزيد الطين بله أذا قدم أصحاب البيت شيئا من الكعك و القرص مع الشاى .. هنا يكون التلبك المعوى حتمى لا محاله .. لكن .. يهون الأمر مقابل دعوات جدى رحمة الله عليه و رضا أبى و أعمامى عن أدائى

فى كفر الشيخ المحافظه الساحليه شأنها شأن الدقهليه و دمياط استوطن بعض الغجر .. والغجر شعب من الرحل لهم لغتهم و شريعتهم الخاصه , لكن من يقرر الأستيطان منهم عليه اتباع أسلوب و شريعة الفلاحين المقيمين , فلا سيرك ولا موالد بعد الأستيطان.. و التحدث بالعاميه المصريه دون اللغه الغجريه الغامضه ..

لا أظن المستوطنين من الغجر التزموا بتلك القواعد ألى أقصى حد .. لكنهم أقاموا فى بيوت على تخوم الزمام بوجه عام .. بانتظار انقضاء سنوات يتواتر فيها أجيال حتى ينسى التاس الأصل الغجرى الغامض للبيت و يبدأ التاريخ المستقر لأسره قد تصبح عائله لا حقا بالنمو الطبيعى للبشريه , و قد كانت مساكن أؤلائك الغجر سابقا ( المستوطنين لاحقا ) ضمن برنامج توزيع الذبائح شهريا , سواء باعتبارهم من المحتاجين أو باعتبارهم من المؤلفة قلوبهم حديثا , و يسأل عن ذلك أجدادى رحمهم الله جميعا .

المهم .. أحد بيوت الغجر المؤلفة قلوبهم كما ذكرت كان بيت أم سعد .. و أم سعد كانت فى حكم الأرمله , فقد غاب زوجها أبو سعد منذ سنوات فى أحدى الرحلات البحريه المنطلقه من البرلس .. سواء ركب باخره منطلقه لليونان أو تركيا , أو ابتلعه البحر الغضب الغادر بطبعه أو عاد ألى ساحل آخر فتزوج بأخرى و أنشأ بيتا آخر .. فالأمر سواء .. فأم سعد تسعى على رزق ثلاثة أبناء هم بالترتيب العمرى سعديه ثم سعد ثم على .. و لا عائل لهم سوى أعيان الزمام و عمل أم سعد فى بيوت القريه ( التى لا تخرج عن كونها بيوت عائلتى ) و بالتالى .. فأم سعد تصنف باعتبارها الأولى بالرعايه عند توزيع ( الهدايا ) أيا كانت ..

يقودنى الخفير النظامى ألى البيت الواقع فى أطراف الزمام وقتها ( قبل أن يتم تجريف الأرض و البناء عليها حتى صار بيت أم سعد برجا أسمنتيا حاليا ) و يذكرنى بوصية جدى بأن أسلم الهديه بأدب جم و ألا أدخر وسعا فى ترجى قبول أهل البيت للهديه أمعانا فى صون كرامتهم و حفظ ماء و جههم ..عظيم ..أطرق الباب بأدب ..فينفتح الباب عن .. سعديه .
سعديه ... عيون سوداء كحيله كعيون أقباط الصعيد .. عيون تنير ظلمة الفراغ خلفها فى البيت الطينى البائس .. عيون تذبح كالمهند البتار .. حوراء حقا و صدقا .. شاهقة البياض بارعة السواد .. يالله على تلك العيون .. تنظر فتأسر أو تغمض فتذبح .. ذكاء عبقرى يشع منها .. و حنان جارف لا تخفيه الرموش المسدله .. طغيان أنوثه و عنفوان جاذبيه لا يغمده نعاس .. أما الوجه فسمار خمرى يسكر الناظر قبل الشاربين .. عنق سبحان من صوره .. نهدين فى حالة صراع دائم مع الثوب المحتشم .. ولن تعلم أبدا علام سينتهى الصراع .. خصر قد يجوز تزيينه بخاتم لا أكثر .. و انسدال ثوب يفضح ساقان لا يطاولهما ألا الغزال فى البريه ..اللعنه على تلك الغوايه التى تجلى الخالق فى صنعها .. أبتلع ريقى و أنطق : أنا فلان ابن محمد أبو عبد الواحد ( أبو تعنى بلهجة الفلاحين ابن ) و جدى يهديكم السلام و الأحترام و يرجو أن تتقبلوا هديته لبيتكم الكريم .. لا أدرى كم مره مارست الزفير و الشهيق لأنطق تلك الجمله القصيره فى حضور سعديه الطاغى باستبداد .. لكنى نطقتها و مددت يدى بكيس اللحم الذى ناولنيه الخفير النظامى ..
اللعنه .. لم تمد سعديه يدها بابتسامه كما فعل الجميع .. و لم تفسح فرجة الباب قائله أتفضلوا كما عهد الفلاحون الأخرون .. بل تشبثت يدها بالباب .. و نطقت بلهجه و صوت ليتها لم تنطق بهما : أحنا مش بناخد حاجه من حد ( بتعطيش الجيم .. و كأنها تعطش قلبى للنهر فى يوم قيظ ) .. أتمالك نفسة و أقول : أحنا جيران .. و دى حاجه بسيطه
هنا تنطق بغجريتها الأصليه : ولا اشماجه عانعاطى ... ( أشماجه تعنى قليل باللهجه الغجريه .. و عانعاطى تعنى سنأخذ .. يمعنى لن نأخذ و لا شىء ) و تستكمل حديثها و ياللهول .. تدمع عيناها الساحرتين حين تنطق : الخير أشلبده يمنا ( اشلبده تعنى كثير و يمنا تعنى عندنا .. يمعنى الخير كثير عندنا ).. اللعنه .. تلك العيون الجنيه تدمع .. لا أفكر الآن سوى فى الركوع أمامها و التوسل لها أن تتزوجنى .. نعم .. فبمراهقتى المجنونه لا أجد فى كيانى طاقه ألا للركوع أمامها و طلب الزواج منها .. تلك الأنثى المتفوقه تحمل بين اضلاعها الرقيقه كرامه و كبرياء لم أجدهم فى فحول الفلاحين قبلها .. لهجتها فيها كبرياء سيدات القصور ..و يالله .. يالله على نهديها وهى تنهج أنفعالا و غضبا .. اللعنه على هذا الثوب الصلب .. كيف يكتم ذانيك البركانين ؟ اللعنه

يتدخل الغفير النظامى الجلف : أندهى أمك يابت ... تتبرم دون أن تنطق , و دموعها الآن بدأت تنسال و قبلها دماء قلبى تنسال أنفجارا بين ضلوعى .. فجأه
تظهر قدم أم السعد أولا رافسة لسعديه بين ضلوعها لتتكوم ربة الجمال خلف الباب بأنين قطع منى الروح قبل الأوصال ... و تزعق فيها أم السعد ( أو تزعق فى كيانها المتكوم خلف الباب ) يابنت الكلب .. سيدك يشاديك و ترومى ( بمعنى سيدك يعطيك و ترفضى ؟ ) و تتسلم يد أم السعد الشبشب من قدمها بحركه بهلوانيه و ترفع يدها استعدادا لتنهال على سعيده .. حبيبتى بالشبشب عقابا لها على كبريائها .. لا أدرى ألا و يدى تمسك بيد أـم سعديه بقيضه حديديه تمنعها من أن تنهال بالشبشب على حبيبتى الأولى .. ضاربا عرض الحائط بصيحات الخفير المارد أن : سيبها تربيها .. و متجاهلا رد فعل جدى رحمة الله عليه لو علم بما فعلت من تدخل فى أعراف البيوت ..
أمنع اليد الهاويه بالشبشب على سعديه و يدى الأخرى تستعد بتلقائيه شديده لخنق تلك الأم المفتريه التى تمارس وأد الكرامه فى وضح النهار .. المهم . .ينتهى الموقف بسرعه خاطفه بتدخل ذراعى الخفر الأسطورتين , بيبعدنى بيد .. و يبعد أم السعد باليد الأخرى ... و ينتهى الموقف الأسطورى بقبول أم السعد ( للهديه بذكاء بارع يليق بغجريه ) مع محاولاتها لتقبيل يدى باعتبارى مرسال سيدى العمده , و سيل من الدعوات بالستر و الصحه و السلامه .. يشدنى الخفير الغشيم بعيدا بعد تسليم الهديه .. و أنين سعديه البارعة الجمال مازال يطن فى أذناى
لا أدرى كيف انقضى اليوم بعدها .. لكنى عدت لجدى رحمة الله عليه لأقص عليه ماحدث .. أكلمه بوضوح و هو الخبير العليم بنفوس البشر , فيلمس ما اشعر به من وله و ليس فقط أعجاب بسعديه خلقة و خلقا .. ياجدى دى عزة نفسها تخليها أحسن من كتير قوى من اللى بنشوفهم حتى فى عيلتنا .. يبتسم الراحل بمكر محبب .. و أنتفض أنا بداخلى و أذكره بقصة زواج أبن سيدنا عمر ابن الخطاب من أبنة بائعة اللبن التى رفضت الغش فى السر .. تتسع ابتسامته أكثر ولا يرد .. أتمادى فى حديثى و يتركنى للنهايه , أفرغ مابداخلى من شحنة مشاعر و أظننى دمعت عيناى و أنا أطالبه بعقاب تلك الأم الظالمه التى تعاقب ابنتها على عزة نفسها , بل أتوسله أن يعاقب الأم علانيه حتى يرد لسعديه ( حبيبتى ) كرامتها التى أهدرتها الأم الغشوم .. ينهى جدى رحمة الله عليه الحديث بعباره واحده .. يابنى , الغجر غيرنا .. و ينهض لشؤنه و ابقى أنا فى حيره , لا يمر الموضوع بسهوله , فسويعات و أفاجأ بالسائق يطلبنى لأعادتى للقاهره , فقد أمر جدى بذلك .. و يتم استبعادى عن القريه لنجو شهر تقريبا بطريقه ملطفه , مره بحجة تكليفى بقضاء بعض الأعمال فى القاهره , و مره بأن أبى يريدنى معه فى مشوار للأسكندريه و هكذا .. و تفعل المراهقه مفعولها الساحر .. و أنسى كل شىء عن سعديه فى أسابيع قليله
ألى هنا يمكن أن أتوقف عن السرد و أعد نفسى قد كتبت قصه رومانسيه قصيره لا تشوبها شائبه .. بل قد أكمل من خيالى احتمالات اللقاء الثانى بصوره أيضا مغرقه فى الرومانسيه اللذيذه .. أو أجنح هنا ألى ميولى السياسيه الكئيبه و أتسائل كم سعديه دفنت تحت أالصخور فى الدويقه أو غرقت فى ظلمات البحر فى العباره .. يمكن أيضا أن أسقط الحدث ( عند الحد المسرود حتى الآن ) على نظام التربيه و التعليم المصرى و أساليب القمع التى يتربى عليها الأبناء .. قد أرسل ما كتبته أيضا لمجموعة كلنا ليلى متضامنا معهم فى موضوع قهر البنات فى الريف .. هل أفعل أيا من هذا أو ذاك ؟
ليست طبيعتى السوداويه و الله هى مايملى على ما سأكمل به السرد لكنه الواقع و ماحدث بالفعل .. واقع أراه يلخص الكثير من واقعنا الأجتماعى و السياسى و الأقتصادى .. و الله لا أقصد الكآبه عامدا .. لكنى فقط أسرد الواقع , و قد أعرج لأسقاط تحليلى الشخصى على القصه من واقع تخصصى و اهتمامى .. و أليكم أيها المبتلين بقراءة مدونتى باقى القصه كما هى فى الواقع
أنقضى منذ لقائى الأول بسعديه و عيونها نيف و عشرون عاما .. لم أرها قط , بل و خرجت المسأله بكاملها من ذاكرتى تماما كحدث محدد مع وجود أثار منحوته فى وعيى حول الوضع برمته , نيف و عشرون عاما قاربت فيهم من سن الأربعين , و فى زياره للبيت الكبير بعيد وفاة جدى و فى حضور أعمامى( الذين صار منهم العمده الحالى و نائب الشعب الحالى بعد وفاة جدى و شقيقه ) و أبناء عمومتى ,فى يوم جمعه عادى بعد الصلاه نستقبل أهل الزمام فى الدوار .. تدخل امرأه مكتنزة القوام مغطاه بحجاب و عبائه سواء ذات طابع خليجى لا تخطئه العين , لا سيما و ساعديها مغطيان بأساور ذهبيه كثيفة الوزن منعدمة الذوق .. لا أعرفها ألا حين نظرت ألى عينى مباشرة .. فأتذكر ذاتيك العيون .. أنها هى سعديه .. تسلم على الجميع هذه المره بطريقه لا أراها تختلف عن أسلوب الجميع .. بل تنحنى محاولة تقبيل يد العمده الجديد و أبى و بعض أبناء عمومته .. تخاطب الجميع بصيغة باشا التى كرهناها سابقا و منعها جدى رحمة الله عليه من الأستخدام أبان حياته
سعديه .. من فتاه غجريه صاخبة الحضور فائرة الكرامه و عزة النفس رغم الفقر .. هاهى الآن .. تمارس تباهيها بالذهب كديدن العائدين من بلاد الزيت .. و تنسى الكثير من عزة نفسها و كبريائها تحت ثقل المشغولات الذهبيه التى كبلت ساعديها .. و روحها .. سعديه .. ماذا حدث فى الخمس و عشرون عاما الماضيه ؟
ماذا حدث ؟ تزوجت سعديه فى سن مبكر .. تزوجت من عامل صيانة جرارات زراعيه غريب عن البلد .. فكان أول من تقدم لها ووافقت أمها فورا فهى تعلم تردد الفلاحين من أبناء القريه القدماء فى التقدم للزواج من ذات الأصول الغجريه .. سافر العامل أولا ألى العراق .. ثم ألى الكويت .. عمل هناك فى مجال صيانة معدات الديزل .. و قربه الكفيل منه فصار مقاولا للأنفار .. يأتى لمصر كل بضعة أشهر , يختار المحظوظين من أبناء البلاد و يتعاقد معهم .. يقبض منهم مقدما حقه فى عقود العمل .. و يعود بهم ليسكنهم فى الكويت و أحيانا العراق .. يذيع سيطه فى محافظات الدلتها كلها .. يقبض مبلغ يتراوح بين خمسة آلاف جنيه و خمسة الاف دولار عن كل رأس حسب مؤهل المصرى المحتاج للسفر , فالسائق أو عامل البناء يدفع بالجنيه , بينما الطبيب أو المهندس أو المحاسب .. فيدفع بالدولار .. صارت سعديه تجلس فى بيتها الى صار برجا مبنيا بالأسمنت أقيم على الأرض الزراعيه التى اشترتها بأموال جيرانها الراغبين فى السفر ثم جرفتها و بنت عليها .. و يأتيها الناس من كل فج عميق .. يقف أطباؤهم و مهندسوهم و محاسبوهم ناهيك عن عمالهم و فلاحيهم بالطابور أمام باب جراج بيت سعديه .. ترسل من يجمع منهم الطلبات .. و قبل عودة الحاج ( زوجها ) ترسل من ينبه عليهم بالحضور باكرا مع المال اللازم .. صار مدخل بيت سعديه يشبه سور الكليه الحربيه فى القاهره أبان فترة التقديم بطلبات الألتحاق .. عمال و أفنديه يفترشون الأرض بانتظار رضا الحاج عنهم .. و تعطفه بقبول أموال غالبا اقترضوها ليمكنهم من السفر ألى بلاد الزيت ..
اكتنز جسد سعديه تعبيرا عن جودة التغذيه و ترهلت يداها بالمشغولات الذهبيه .. بل صارت ضيفه مرحب بها جدا فى أغلب بيوت الفلاحين فى الزمام كله .. بل صارت زيارتها لبيت منهم تشريفا لهذا البيت .. و الآن .. الآن تدخل سعديه البيت الكبير .. تجلس فى حضرة من تسميهم هى باشاوات .. بل و تتعمد أظهار ذهبها أمام نساء عائلتى اللاتى لا يملك أغلبهن مثله .. المهم .. طلباتك يا أم محمد ؟ ( هكذا صار اسمها بعد أن أنجبت بكريها محمد ) سلامتك يا باشا .. هكذا ترد سعديه على استفسار عمى العمده
ثم تسترسل .. ابنى محمد أسم الله عليه أخد الثانويه العامه السنه دى و بمجموع حلو ..
مبروك يا أم محمد .. و يتململ عمى اللواء بالقوات المسلحه وقتها .. فقد توقع الطلب
تكمل ام محمد .. كنا عاوزين الباشا ( مشيره ألى لواء الجيش ) يتبناه كده زى ماعمل لولاد عيلة البشبيشى و كلش و يدخلهلنا الحربيه أو الشرطه .. !!! نفسى أشوفه رتبه كده .. و ترفع ساعديها مشخللة بالذهب الثقيل فيهما
.. تمر فترة صمت قصيره لكن ثقيله .. فالولد أبن عامل صيانه و غجريه .. هيهات أن يمر من كشف الهيئه فى أى كليه سواء الحربيه أو الشرطه .. فضلا عن أن سلوكيات الولد نفسه و أبوه مع الناس لا تشجع أبدا على مساعدته لتولى منصب ذو سلطه و قوه .. فقد ترامى ألى سمعنا أن الحاج ( زوج سعديه ) ورد عمالا من أبناء بلدته ليخدم بعضهم فى الجيش العراقى و البعض فى الجيش الكويتى .. الرجل سمسار رقيق لا أكثر .. و ابنه يعاونه فى ذلك منذ زمن .. فكيف نتخيله مرتديا بذله رسميه سواء فى الجيش أو الشرطه ؟
يقطع اللواء الصمت متنحنحا و يسألها : مش محمد ده كان جاله روماتيزم و هو صغير ؟
ترد سعديه : أبدا يا باشا و الله .. ده كان بس حبة برد و هو دلوقتى زى الحصان .. ده بياكل لحمه تلات مرات فى اليوم ما شاء الله
يرد اللواء متمهلا : و الله يا سعديه الكشوف الطبيه دلوقتى بقت معفده قوى .. عموما خليه يسحب طلب من الحربيه و الشرطه و يبتدى الكشوف و يبقى يكلمنى فى القاهره لما يوصل لكشف الهيئه و أنا هاشوف
تنطلق ابتهالات سعديه و دعواتها للباشوات .. و لا تنسى الأنحناء على أيدى العمده و أخوانه محاوله تقبيلها و هى تنصرف .. راجيه من الله أن ترى ابنها فى يوم من الأيام ... باشا
لا يضطر أينا للتدخل لصالح أو ضد ابن سعديه .. فقد تكفلت الحمى الروماتيزميه التى أصابته صغيرا باستبعاده من الكليات العسكريه كلها .. نتنفس الصعداء من تلك الجهه , و يلتحق الولد بكلية الحقوق
نحو أربع أو خمس سنوات بعدها , توفى عمى لواء الجيش , و تقاعد أبى عن عمله الرسمى تماما , لكننا مازلنا نجتمع فى البيت الكبير من آن لأخر , نساهم مع العمده و نائب البرلمان فى خدمة أهل الزمام قدر استطاعتنا .. و تكون الزياره الثانيه لسعديه للدوار .. و يكون لقائى الثالث معها .. هذه المره لا أر بريقا فى عينيها , اختفت تلك الكبرياء القديمه و حلت نظره تتراوح بين الطموح و الطمع .. و شىء من الخنوع الخبيث .. مع زيادة اكتناز جسدها و ثقل ساعديا بالذهب
طلباتك يا أم محمد ؟ سألها نائب البرلمان بعد التحيات و السلامات
ترد سعديه : محمد اسمالله عليه أخد اسانس الحقوق ( تقصد ليسانس) و عاوزين حد من الباشوات بقى ياخد بيده كده عشان يبقى نيابه - تنظر مباشرة ألى اثنين من أبناء عمومتى ينتميان لسلك القضاء
الأزمه الآن أكثر وطأ .. فالروماتيزم لن يفلح كحجه تبعد ابن تاجر الرقيق عن أشرف المناصب فى مصر .. و المواجهه ستكون مكشوفه لا جدال .. الولد أبن غجريه و تاجر رقيق .. مالعمل الآن ؟
يتذكر أحد الحضور أن أخو محمد الأصغر سبق اتهامه منذ سنتين فى قضية احراز سلاح بدون ترخيص .. و يلقى لنا الفلاح الأصيل بطوق النجاه هذه المره
تناور بالألفاظ و سواعدها المغطاه بالذهب .. ياباشا احنا مستعدين ندفع أى حاجه عشان محمد يبقى نيابه .. ياباشا محمد ده ابن عز يعنى و عينه مليانه .. ياباشا احنا مش ناقصنا فلوس .. أحنا بس نفسنا فى رتب
يقترب نائب البرلمان من الأنفعال .. فتلك الغجريه تلمح بعرض مالى مقابل التدخل لصالح ابن تاجر الرقيق و شقيق أحد الأشقياء أمنيا ليلتحق بسلك القضاء الشريف .... لا أذكر تفاصيل الحوار بالتحديد .. لكن عموما لم يعدها أحد بشىء .. و كل ما آل اليه الموضوع أن : خليه يقدم الطلب و يدخل المسابقه و بلغينا .. طبعا لا يلتحق الولد بالنيابه أطلاقا .. و يمضى فى طريقه العادى كمحام شاب .. كان من الممكن أن يكون ناجحا و شريفا
و بدلا من أن يبنى مستقبله بكفاح طبيعى كمحام .. نسمع أنه التحق بالحزب الوطنى .. و التصق بأحد نوابه فى الغربيه , صار مديرا لحملته الأنتخابيه و التى فاز فيها نائب الحزب الوطنى .. يتمدد نفوذ المحامى ابن الغجريه .. و ينتقل نفوذ أبوه ألى مصر و بنفس التجاره .. الوظائف .. لكن هذه المره الوظائف الحكوميه .. فالتعين فى أحدى الوزارات يكلف أيضا من خمسة آلاف ألى خمسين ألف جنيه .. هذه المره يكون مكتب المحامى ( الذى كان من الممكن أن يكون محترما ) هو مقر أدارة هذا النشاط بالتعاون مع نائب الحزب الوطنى .. يتزايد تدفق الأموال ألى بيت و أسرة سعديه .. و تعرف أنه الآن لا سبيل لها فى الحصول على رتبه .. لكنها يمكنها الحصول على السطوه بالمال و الأقتراب من الفاسدين فى السلطه .. يتطور نشاط المحامى و أبيه تاجر الرقيق ألى التلاعب فى الأراضى و ملكياتها .. تبدأ تنازعات و نزاعات الفاسدين حول الأراضى السائبه والمملوكه للدوله . سواء لأصلاح عبد الناصر الزراعى أو لأوقافزقزوق و مشايخه .. النزاعات يعلو صوتها و جميع أطرافها ببساطه .. أولاد غجريه .. لا يعرفون حدودا للفجر فى الخصومه .. تنطلق رصاصات .. تقع جريمة شروع فى قتل .. و يكون محمد ابن سعديه متهما فيها .. فضلا عن حيازة سلاح بدون ترخيص .. تعلم سعديه أنه لا مجال الآن لطلب مساعدة العمده أو النائب .. فالجريمه لا أخلاقيه .. و عائلتى لن تقبل التدخل بأى شكل فى جريمه ايا كانت .. تسعى سعديه لأخراج ابنها من العقاب بالطريقه الوحيده التى تعرفها فى حياتها .. الأفساد بالذهب .. و تحاول رشوة القاضى .. و ينكشف الأمر بأمانة القاضى
هنا .. و هنا فقط يضطر العمده و النائب للتدخل تعاطفا مع من تربت فى الزمام و أفسدها زمن الفساد بعد اختفاء زوجها فى ليبيا سمسارا للهجره الغير شرعيه لأيطاليا .. تتدخل عائلتى فى محاوله مستميته لأبعاد المرأه عن البهدله .. يوكل النائب محاميه الخاص للحضور معها فى القضيه .. يحاول العمده استسماح القاضى الشريف للتنازل عن بلاغاته للنيابه مراعاة لحرمة المرأه التى تربت فى زمامنا يوما .. يتدخل لدى القيادات الأمنيه لتخفيف الوطأه باى شكل .. تنتهى القضيه , و تخرج سعديه محكوما عليها بحبس بسيط مع وقف التنفيذ لا أدرى كيف كان ذلك
لم أر سعديه مره أخرى .. لكن سعديه فى ذاكرتى ووعيى تمثل شىء كبير أقف عنده دوما و بعمق حين أفكر فى أحوال بلادى الآن .. سعديه الفقيره كانت حره .. كانت ذات كبرياء و كرامه و عزة نفس تحسدها عليها فتيات العائلات الكبيره .. بل و يفتن بها كل الشباب .. أهو القهر من أمها ؟ أم دونية النظره للغجريه من المجتمع ؟ أم جمال اليتيمه الذى صار نقمه عليها بدلا من أن يكون نعمه لها ؟؟ لا أدرى .. لكن سعديه و كبريائها وقعا فى مرحله من التاريخ تحت ثقل براميل الزيت .. هذا الشيطان الأسود الذى أفسد أخلاقيات و بدد قيم .. و صار ذهبها هو علامتها بدلا من علو جبينها و بريق عينيها .. و كأن أساورها الذهبيه كلما زاد وزنها .. زاد تكبيلها لروح سعديه الحره و كبريائها .. سقط كبرياء سعديه تحت ثقل ذهبها نفسه .. قيم سعديه التى لم يشكلها الأب الغائب شكلها الزوج السليط تاجر الرقيق .. كل مهاراته كانت فى التقرب من كفيله / سيده .. مع جبروت قلبه على أبناء بلدته .. تلك كانت مهاراته و قيمه .. و منها تشكلت قيم سعديه الجديده .. فجأه .. يشتعل طموح سعديه القديم .. الآن تسكن فى بيت من الأسمنت المسلح .. تشاهد الدش و تستمتع بالتكييف كما تستمتع بانحناء هامات الأطباء و المهندسين لها مترجين منها التوسط لهم لدى الحاج .. ليساعدهم فى الهجره ألى بلاد الزيت .. ليعودوا منها محملين بالذهب الذى استبدلوه بقيم قديمه .. ماعادت تغنى ولا تسمن فى هذا الزمن الردىء
تطمح سعديه فى الرتب بعد أن حصلت على المال .. طموحها مسعور .. غجريه لا تخاف .. تتحرك محمومه سعيا للرتبه .. فهى تملك الذهب و لم يتبق لها سوى أن تضاف كلمة باشا ألى اسم أيا من أبنائها .. تتصرف من واقع قيم تعلمتها من تاجر رقيق بعد أن قهرها شبشب أمها فى الصغر .. فلا تميز كرامه أو كبرياء من خنوع أو خضوع أو غش أو تدليس ... تكفر و أولادها بكل قيم العداله و الكفاح للنجاح .. لا تجد سعديه أملا فى الأنتصار أو تحقيق الطموح ألا .. بالفساد .. فى عصر الأفساد الذى صرنا فيه .. تختنق كبرياء سعديه تحت وطئة ذهبها و فساد بلادنا .. و أسأل نفسى الآن .. كم سعديه احتنقت تحت صخور الدويقه ..؟ و كم سعديه اختنقت تحت فساد هذا الوطن الحزين ؟