اقتصاد الجيش
قبل التطرق للعنوان أعلاه يجب ( تأصيل ) فكرة النشاط الأقتصادى المملوك للدول , ففكرة امتلاك ( الدوله ) لأنشطه اقتصاديه فكره قديمه جدا لكن التنظير لها بدأ فى العالم منذ نحو قرنين من الزمان و يمكن تلخيص أهداف امتلاك ( الدوله ) لأنشطه اقتصاديه فى النقاط التاليه :ز
وجود مصاد دخل للدوله بعيدا عن مصاد الجبايه الريعيه المعتاده ( جمارك و ضرائب و خلافه ) بحيث تبقى خزينة الدوله فى مأمن من تقلبات السوق , فركود يضرب قدرات التجارعلى الربح سيؤدى الى عجز فى حصيلة الجبايه بينما امتلاك الدوله لنشاط خاص بها يمثل مساحة أمان لتمويل نفقات الدوله وقت الركود
مشروعات الدوله تتضمن تصرفها فى مساحات أراضى شاسعه و غير مأهوله و غير ذات قيمه و يحجم المستثمر الفرد عن اقامة اى انشطه فيها بينما قيام الدوله بتعمير تلك الاقاليم يضيف لمساحات العمران فى الدوله و يرفع من قيمة اصول الدوله فى الأجمال .. و قناة السويس الأصليه نموذج لذلك , فقبل حفر القناه كانت المنطقه مجرد صحراء جرداء غير مأهوله ألا فى السويس مدينه تقوم فقط على خدمات الحجاج فى موسم الحج و فى الشمال مدينة الفرما الزراعيه بميناء صغير صارت لاحقا بورسعيد .. و بحفر القناه تطور الأقليم كله .. و نفس الحال مع نجع حمادى و مصانع السكر و مجمع الألومونيوم أو حلوان و مصانع الحديد و الصلب او المحله و مصانع النسيج
الدوله بطبيعتها ( كباحث عن القوه و المكانه مع البحث عن الثروه و المال ) تتقدم للأستثمار فى مشروعات طويلة الأمد فى فترة استرداد الأستثمار و حتى ضعيفة الربحيه مثل الأنشطه القائمه على البحث العلمى ..و بالتالى فمن أكبر مهام انشطة الدوله الأقتصاديه هى رفع ( مكانة ) الوطن كله بزيادة معدلات التعلم و تمويل البحث العلمى المتقدم و نقل التكنولوجيا الحديثه , و بطبيعة الحال يكون ( ترقى ) مستوى مواطنى الدوله جزء من مهام و نتائج انشاء مشروعات الدوله
ان ترقى مستوى العاملين فى أنشطة الدوله مع توزيعهم جغرافيا على انحاء البلاد لهو من شأنه ( تمدين ) الريف و نقل الحضاره المدنيه الى ابعد بقاع الوطن , فالأصل ان العاملين فى الدوله هم من ( نخبة المتعلمين ) و ترقيهم قائم على الكفائه و النبوغ و الأنتاجيه , بالتالى وجودهم فى الريف و المناطق النائيه يجعلهم قدوه للمواطنين هناك , و يرسخ قيمه واضحه جدا هى أن الترقى قائم على العلم و العمل , و تلك القيمه الأخلاقيه مؤداها كسر قيم القبليه و التوريث للثروه و المكانه , فمن حق كل فرد فى الدوله أن يطمح لمكانة المهندس الزراعى فى الريف او طبيب المستشفى العام او مسؤول العداله فى اقليم بعيد او مدرس المدرسه او الجامعه .. و تتأصل بذلك قيم العلم و العمل و تنحسر قيم القبليه و الظلم
من شأن مشروعات الدوله أن تطور من مستوى السلع و الخدمات المقدمه للشعب خصوصا أن الدوله فى تلك الحاله تبحث بمشروعاتها عن (المكانه ) مع بحثها عن تحقيق الدخل و الأرباح .. و من شأن خدمات و سلع متطوره تقدمها الدوله ان ترفع من تمسك المواطنين بها و تزيد من ولائهم لها
------
محمد على باشا كان أول من أسس مشروعات القطاع العام فى مصر ( بالفكر و ليس بالأسم ) بدئا من الترسانه البحريه الى مصانع السلاح و المسبوكات المعدنيه و معامل الكيمياء و خطوط النقل ( سكك حديد مصر ) و مع امتلاك الدوله ( العائله المالكه وقتها ) لكل اراضى مصر و أعادة توزيعها بالبيع او بالمنح ( لكسب الولاء ) جائت مشروعات القناطر و أقامة السدود و شق الترع و المصارف و التوسع فى الأراضى الزراعيه .. بل و وضع نواة انشاء بورصات الحاصلات الزراعيه و الخامات الأوليه .. و استمرت الدوله المصريه محتفظه بأغلب تلك المشروعات تديرها بكفائه و تستخدم عوائدها فى انشاء الجامعات و المدارس و اقامة المستشفيات و غيرها من مراكز تطوير الخدمات و السلع للشعب .. و مع ضعف ورثة محمد على و نمو التدخل الأجنبى برأس المال ظهرت مشروعات خاصه كبرى لكن لم تستغن الدوله ولا الشعب يوما عن الأنشطه المملوكه للدوله ( القطاع العام فكرا و ليس اسما ) و ظل انفاق الدوله سخيا من عوائد تلك المشروعات لتقديم خدمات متطوره للشعب من تعليم جامعى و رصف طرق و شق ترع و قنوات و بعثات تعليميه و طبعه و ترجمه و ثقافه .. الخ الخ
-----
جمال عبد الناصر سار على ذات النهج الأقتصادى الناجح لاسلافه من الأسره العلويه لكن مع عداوه واضحه لسيطرة رأس المال الخاص على الخياه السياسيه و افساد حياة المصريين و افقارهم .. و أسس جمال عبد الناصر الموجه الثانيه من المشروعات المملوكه لدوله باسم ( القطاع العام ) و فى عهد الراحل العظيم عزيز صدقى كانت مصر تفتتح كل يوم مصنع جديد .. شملت مصانع القطاع العام و متاجره اغلب مناحى حياة المصريين .. و بعوائد القطاع العام و معدلات النمو المتفوقه وقتها صار انفاق الدوله اكثر سخائا على التطوير و تحقيق ( المكانه ) فامتلكت مصر تليفزيون قبل اليونان ..و انفقت من فوائضها الأقتصاديه على بناء مدارس للأشقاء العرب من الخليج للمحيط و تكفلت بسداد رواتب المدرسين فى الغربه ( قبل ان يغتنى الخليج و تفتقر مصر ) بل صار تمدين الريف قائما على قدم وساق باقامة المشروعات فى اطراف البلاد و تطعيم أدارة المشروعات بالنجباء من المصريين اهل العلم و العمل و اصبح الموظف العام نموذجا يحتذى به فى ريف مصر و مثالا يطمح الجميع للوصول الى مكانته و مستوى معيشته و كان السبيل واضحا للترقى . فالترقى ناتح عن العلم و العمل فقط .. و بدأت فعلا ميول القبليه الريعيه تنحسر فى ارياف مصر و صعيدها .. الى ان كانت هزيمة المشروع الناصرى فى 67 و انغماس مصر كلها فى صراع عسكرى يعلو صوته على كل صوت
---
بعد أنتصار 73 و جنوح ( الرئيس المؤمن ) للمعسكر الغربى اليمينى بتطرف .. و افراجه عن قيادات التطرف الدينى رعاة مبادىء القبليه و التخلف ( فالعلم عند الأسلاميين هو العلم الشرعى و الفقه فقط اما اى علوم خلاف هذا فهى باطله ) و مع عودة الميول القبليه و تعاظم الدخول الريعيه .. انهارت قيمة ( الترقى المبنى على العلم و العمل ) و صار الترقى مرتبطا بالقرب من الحاكم و حزبه الواحد او بخفة الدم و الفهلوه او بالقدره على الأحتيال و جمع اموال البسطاء بحجة توظيفها ( اسلاميا ) او جمع اموال نفس البسطاء المودعه فى البنوك باقتراضها و الهرب بها .. صار الترقى بقرينا للفساد و سماكة الجلد و تحمل أوزار الخطايا و التنازل عن الكرامه .. حتى جنح خريج الهندسه للعمل كجارسون فى الفنادق .. فدخل من ينحنى للضيف الثرى اعلى من دخل من يعمر الصحراء او ينشىء المصانع .. و انهارت فكرة القطاع العام بفساد التعيينات فيه اولا ثم بعجز الدوله عن الوقوف فى وجه الطبقه الماليه الحديثة التى بدأ تأسيسها مع الأنفتاح .. و الأدهى من ذلك هو عجز الدوله المصريه عن اجتذاب ذوى المهارات الراقيه لتولى ادارة القطاع العام و العمل فيه .. و انكمشت دخول موظفى القطاع العام و الجهاز الأدارى حتى صارت محل تهكم الحميع و سخريتهم فصار انهيار الطبقه الوسطى التى اسسها عبد الناصر انهيارا ماديا و معنويا .. و صار ( موظف الحكومه ) مواطن يعانى من جيبه و من كرامته سويا .. و أذكر اول حكم محكمة نقض صدر عام 1997 لصالح مدير عام فى التربيه والتعليم .. المدير العام استخرج رخصة قياده ليتمكن من العمل كسائق تاكسى بعد الظهر ليستطيع مواجهة نفقات اولاده .. وزارة التربيه والتعليم طبقت عليه قانون العمل وقتها و انذرته بالفصل .. ووصل الأمر لمحكمة النقض التى حكمت بحق المواطن ( المدير العام فى التربيه والتعليم ) فى العمل كسائق تاكسى ليلا ليرفع من دخله حيث لا يمكن لدخله من العمل العام مواجهة نفقات اسره مصريه طبيعيه !! .. و صار الأنهيار قانونيا .. بل بتطور الفساد البرلمانى فى مصر .. تم استنان قوانين تقنن ( التورث ) فى تكية القطاع العام بقوانين تسمى ب( ابناء العاملين ) فصار القطاع العام نزيفا من قلب مصر بدلا من أن يضخ اموالا و ثروه فى خزانتها .. و صارت الأصول المنتجه .. مجرد اصول عقيمه لا ناتج لها بل تنفق اكثر بطثير مما تنتج .. و طبعا توقف ( تمدين الريف ) تماما بل شهدت العواصم حالات نزوح من الريفين لأنشاء عشوائيات فى غياب الدوله حول المدن سرعان من انتشر ال العشوائيات باخلاقهم فى حاله من ( ترييف المدينه ) بدلا من تمدين الريف
--
عهد مبارك كان نموذجا لأنسحاب الدوله ليس فقط من ادارة النشاط الأقتصادى لكن انسحابها حتى من ممارسة السياده . فكان تخصيص التعليم هو بدايه تلاه تخصيص الأعلام و ترك السيطره على قيم المجتمع فى ايدى الجزارين و أسوأ منهم .. مع استمرار قاعدة الترقى حسب القرب من السلطه فقط و اهدار أى قيمه للعلم و العمل .. فصار الطبال المشوه اغنى المصريين فقط لقربه من ابن الرئيس .. بل صار الحزب الأوحد يضم المجرمين من تجار مخدرات او نصابين على البنوك بل و يتم تصعيدهم ليحصلو على الحصانه كنواب للشعب فى برلمانات مبارك .. و طبعا كان القطاع العام الذى تم افشاله تماما منذ ايام الرئيس المؤمن و صار (مجرد بطه عرجاء ) تنتظر اول ذئب ينهشها بلا مجهود .. فالقطاع العام صار نزيفا مزمنا يستنزف دماء الوطن و أمواله بخسائر سنويه مرعبه أدت لقيام النظم المتتاليه بالأقتراض الكثيف لسد العجز الناتج عن خسائر القطاع العام .. و صار الاقتراض لسداد اجور من لا يعمل ولا ينتج هو نوع من الأنفاق على استقرار الدوله .. او دفع اتاوه لقوه شعبيه كبيره اتقاء لغضبها .. فالقطاع العام و جهاز الدوله اصبح يضم نحو 6 مليون مواطن .. لو تأخرت الدوله عن ( سداد الجزيه ) لهم فى صورة مرتبات و علاوات بلا مقابل انتاجى .. لتعرض استقرار النظام ( الغير منتخب من ايام بعد الناصر نفسه ) لاهتزاز استقراره بعنف لا يطيقه ..و صار تفكيك القطاع العام و بيعه بالعدوان على ميراث الشعب من أصول تم تفشيلها و تحويلها من اصول منتجه الى اصول عقيمه .. حتى سقطت تلك الأصول فى أيدى فاسدين لا ضمير لهم ولا اخلاق .. .. و انهارت كل اهداف القطاع العام التى تأسس لأجلها منذ محمد على
------
لكن من المهم أن نعلم أن فى كل مراحل انهيار الدوله السابق وصفها .. لم يصل الافساد والفساد الى مصانع الأنتاج الحربى و مشروعات القوات المسلحه كلها .. بل حافظ الجيش بقياداته المتتاليه على ذات النسق القيمى الأصلى لأنشاء انشطه اقتصاديه مملوكه للدوله .. من اول قوانين عمل صارمه لا تحابى مخطىء و لا يضيع فيها اجر المتفوق .. الى التزام باصول الصناعه تماما .. وقد لا يخفى على البعض جنوح عصابة جمال مبارك للسيطره على بعض شركات الأنتاج الحربى و هو ما قوبل برفض حاسم و مقاومه شديده و لم تتمكن عصابة جمال مبارك الا من السيطره على بعض الشركات التجاريه التى أسسها الجيش من قبل و تم افشالها بغرض بيعها لاحقا لكن قامت ثورة يناير و انقذت ما تبقى منها
---
منذ 30 يونيو 2013 بدأ عهد جديد .. برئاسة رئيس منتخب ليس عليه فواتير لأحد .. و شرع فور توليه منصبه فى أعادة البناء و اعادة ( استرداد الدوله ) او يزيد .. و بطبيعة الحقائق اعلاه .. لم يجد الرئيس ذراعا اقتصاديه يتصدى بها لجشع الرأسماليه المتطرفه التى سيطرت على مصر و افسدتها فى عهد مبارك .. فالقطاع العام على النحو المبين أعلاه صار عاله على خزانة الشعب .. و توقف تماما عن الأنتاج .. و أولى محاولات الاصلاح بتعديل قوانين العمل بما يسمى بقانون الخدمه المدنيه .. قوبل برفض من البرلمان الذى شرع فى تقديم ( رشوه ) للغوغاء من خزانة الشعب ... و هنا .. لا تجد أدارة البلاد ذراعا اقتصاديا جاهزا لتولى الحد الأدنى من مسؤولية اعادة البناء سوى .. القوات المسلحه و مشروعاتها الاقتصاديه
أن اقتصاديات القوات المسلحه المصريه الحاليه و المستقبليه هى النموذج الوحيد المتبقى من فكر ( الدوله ) و دورها فى خدمة الشعب و تقديم المتاح من السلع و الخدمات .. مع جهد جهيد لمحاولة استرداد ( قيمة العلم و العمل ) كسبيل للترقى و النجاح بدلا من قيم النفاق و التنطع و النصب و الأحتيال التى ارساها نظام مبارك
ان اقتصاد القوات المسلحه بوضوح شديد هو ( القطاع العام ) الذى تنبنى عليه مصر ماديا و قيميا و اخلاقيا .. و يعادل نفس مشروع محمد على باشا او جمال عبد الناصر ابان بنائهما لنهضة مصر الحديثه كل فى زمانه و بامكانياته
ان دعم مشروعات الجيش المصرى واجب و فرض عين على كل مصرى .. و يتبقى على الشعب العمل الدؤوب على مواجهة بقايا الفساد السابق .. لا اهاجم الرأسماليه كفكر لكن اهاجم افعال المتنطعين عليها من العهد السابق .. فطلعت حرب كان رأساماليا وطنيا نعيش فى افضاله حتى الأن .. لكن جمال مبارك و احمد عز و عصابتهم كانو مجرد مجرمين فاسدين مفسدين .. يجب التخلص من قيمهم الفاسده و قواعدهم المفسده ..
اقتصاد الجيش يقوم بما لا يوجد من يقوم به فى الدوله المصريه اليوم .. و على الشعب المصرى ان يعى هذا و ايضا ان يقوم بدوره مع الجيش لأنهاء فساد عقود سبقت.. و أعادة بناء دولة مصر الحديثه .
و الله المستعان
هوامش : يمكن الرجوع لنظرية (سان سيمون) و مدرسته الحديثه فى اقتصاد الدوله و افكار (نوركسه) العالم الألمانى فى التنميه
0 Comments:
Post a Comment
<< Home